مسلسل الأزمات والثورات والحروب التي تمر بها المنطقة والدولة العربية منذ ٢٠١١م تضعنا أمام تساؤلات ملحة ومنطقية لا يسعنا تجاهلها ومن ذلك؟ لماذا نحن العرب لا زلنا بحاجة لثورة تلو ثورة بعد ما يقارب القرن على قيام الدولة الوطنية؟
لماذا لا زال العرب يراوحون في ذات النقطة دون أي إحراز تقدم على مستوى الحقوق والتنمية والمواطنة والديمقراطية؟
لماذا فشل العرب في تحقيق الاستقلال وإقامة علاقات سليمة مع الغرب ودول المركز؟
يذهب كثير من الخبراء إلى أن الجذر الهيكلي لكل هذه الأزمات يعود للعجز المؤسسي للدولة الوطنية بما يتضمنه من حتمية وجود كيان سياسي مؤسساتي قانوني قوي يحتكر أدوات القوة ويستند إلى شرعية شعبية وحالة من الرضا العام, و فشلها في تحقيق التنمية الشاملة, وخلق أسباب النهوض الشامل ,وفتح آفاق رحبة من التطور، الأمر الذي نتج عنه دولة رعوية ريعية مُشوَّهة يحكمها نخبة من النهابين وأهم سماتها الزبونية السياسية وشراء الولاءات والمحسوبيات والمحاصصات القبلية والطائفية… إلخ، فضلاً عن احتكار الثروات العامة ونهبها لدرجة عدم التمييز أحياناً بين الموارد العامة والخاصة , وخلق نمط منحرف من العلاقات على مستوى المجتمع وعلى مستوى الأحزاب وعلى مستوى الممارسة السياسية، والعلاقة اللامتكافئة مع الدول والشعوب الأخرى.
الدولة الريعية لا تمثّل مصالح الشعب بقدر ما تمثّل مصالح النخبة الريعية المسيطرة عليها، تقوم شرعيتها على سياسات توزيعية أكثر مما تقوم على سياسات تنموية، وتكرس إدارة عامة تقوم على سلطة الفرد لا المؤسسة، وتسير بالأوامر والتوجيهات، لا بأهداف التنمية والمصلحة العامة.
خوف هذه النخبة أو المجموعات الريعية الحاكمة من خسارة مواردها يجعلها لا تقبل بتداول السلطة السياسية فتلجأ إلى إنتاج ديمقراطية شكلية وإبطال أي تأثير للانتخابات كآلية للتحول الديمقراطي وتداول السلطة، وإلى توظيف الريع الإداري وعلاقات الموالاة والتبعية، لتدعيم موقعها في الحكم وتهميش النخب والفئات والجماعات الأخرى ويصبح الفساد جزءا من آليات عملها، وبسبب التوزيع غير المتكافئ فإنها تكون عرضة للنزاعات المسلحة والحروب الأهلية من أجل إعادة توزيع الثروة.
في الدولة الريعية تنشأ علاقات زبائنية بين المواطن والدولة التي ينظر لها شبكة أمان لتوزيع الريع، فالفرد لا ينال حقوقه كمواطن تتعامل معه الدولة مباشرة من خلال مؤسساتها المدنية والقضائية والخدمية بل كعضو في جماعة قبيلة أو حزب أو طائفة وهي المعيار في تحديد مكانة الفرد اجتماعيا وتحديد دوره السياسي والاقتصادي، وبالتالي ظهور تمييز معلن بين المواطنين (من خلال الوظائف المدنية والعسكرية والأمنية والدعم الاقتصادي والسياسي والخدمي)
وعلى العكس من الدولة في المجتمعات الحديثة التي يتخذ الصراع السياسي فيها مسارا يخلق انقسامات أفقية على أساس قضايا سياسية واجتماعية ومصالح اقتصادية، وعلى أساس التوافق في المهنة أو الميول الأيديولوجية، وتعبر عن نفسها بوسائط مدنية، أحزابا ونقابات مدنية ومهنية وعمالية في إطار من الوحدة الاجتماعية.. أما الدولة الريعية فإنها بسبب فشلها في بناء أمة وتحقيق اندماج وطني حقيقي تسعى إلى تلفيق الأمة عن طريق المال وفي المحصلة تزيد من تعميق الانقسامات عمودية حيث يتمايز الناس تبعا للهوية، والتنوّع ثقافي/إثني، أو ديني/طائفي، أو قبلي/عشائري وفي الصراع على صفة المجتمع أو الهوية الثقافية للمجتمع، الدينية (سني -شيعي) والأيديولوجية (إسلامي -علماني) والإثنية العرقية.