انجلت الحرب الأولى التي شنها النظام السابق عن استشهاد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي، ودُفِن في قبرٍ مؤقّت، مع سيول من الشائعات، والتضليل حوله، وحول قضيته، في ظروفٍ كانت كفيلة، بدفن الرجل وحركته وقضيته إلى الأبد، لكن سرَّ الشهادة سرعان ما حلَّق رُوحًا ينعش الأجسام الهامدة، ومُنطَلقا لميلاد حركة ثورية جهادية، بات العالم اليوم يَضْرِبُ أخماسَ بداياتها في أسداس النهايات التي وصلت إليها.
ما الأمر إذن؟
إنه مِصْبَاحُ المشروع الصادق.. حين يشتعل بزيت الشهادة الخالد، ووَقود التضحية المتأبِّد..
ما هي الشهادة؟ ومن هو الشهيد الذي وهبه الله شيئا مما لديه، وهو العندية له، والحضور الحقيقي، والقرب منه تعالى، والخلود لقضيته، والبركة في تحركه وجهاده؟
وهل معناه الحاضر للمَشْهد أو المؤدِّي للشهادة؟ وهل ذلك في الدنيا أم في الآخرة؟ وهل تُفتَح للشهيد قنواتُ التعرُّف والحضور من مقامه الكريم إلى واقعه الذي استُشْهِدَ فيه؟ وما مصاديقُ ذلك من قضايا التاريخ؟ وأيُّ مقامٍ خالد تسنَّم ذروته هذا الرباني الكريم؟! وما هي الدروس والعبر التي حريٌّ بنا أن نستلهمها؟
الشهادة في اللغة والقرآن الكريم
وردت مفردة (شهد) في اللغة العربية وفي القرآن الكريم على معنيين:
وهي هنا في حق أولي العلم مثلا: إدلاءٌ بشهادةٍ عن حضور معنوي في ساحة البصيرة، أما قوله تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ) [يوسف:26]، فهي إدلاء بشهادة منبئة عن حضور مادي بالبصر الحسي.
ويتبيَّن أن بين المعنيين ارتباطًا هامًّا، وبعبارة أدق، يتبين أن المعنى الثاني يتركب من المعنى الأول وزيادة، أي من الحضور، وهو تحمُّل الشهادة، ومن القول بها، وهو أداؤها، وهذا يرجّح أن الشهادة في جَذْرِها الأصلي تعني الحضور، باعتباره أساسًا هامًّا في الشهادة بمعنى الإدلاء أو الإخبار بما علِمَه الشَّاهد، فالكثيرُ فرعٌ عن القليل.
فإذا انتقلنا إلى العرف الشرعي لكلمة (شهادة)، وجدنا أنها تطلق على ما يدلي به الشاهد من معلوماتٍ قاطعة رآها أو سمعها، أو تحمَّلها عن حضورٍ قطعي للمشهود فيه، كما وجدنا أيضا أنها باتت تُطْلَقُ عُرْفا إسلاميا عامًّا على القتيل في سبيل الله؛ حيث أُطلقت منذ أول الإسلام وإلى يومنا هذا على (القتل في سبيل الله)
وأطلق وصفُ (شهيد) الذي يُجْمَعُ على (شهداء) على (القتيل في سبيل الله)، وصار هذا مفهومًا مُجْمَعا عليه بين المسلمين جميعا، منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا.
علاقة الإطلاق الشرعي باللغوي
ويترجَّح أن الإطلاق الشرعي لكلمة شهيد على القتيل في سبيل الله جاء منسجما مع الوضع والإطلاق اللغوي؛ فالقتيل في سبيل الله هو ذلك الذي حضَر الموقفَ الحقَّ، وشهِد به وفيه شهادةً قولية، وشهادة عمليةً، وهي الشهادة بماله ودمه وروحه، وهي أقوى من الشهادة القولية، وبالتالي فإنه يصدُق عليه أنه شاهِدٌ
سواء قلنا: إن كلمة (شهيد) على وزن (فعيل) إحدى صيغ اسم الفاعل، من صيغ المبالغة، أو قلنا: إنه على وزن فعيل، اسم المفعول، مثل قتيل، أي مقتول، وشهيد هنا أي مسْتَشْهَد، مطلوب منه الحضور والشهادة، أو حضرته العناية الإلهية؛
وفي كلا الوجهين يصدُق على موقفه أنه شهادة، وأنه لقوة ذلك الموقف، ولتكرُّره، ولفضله، ولخصوصيته، اختص باشتقاق (شهيد) على وزن (فعيل).
وإذا كان الله قد نهى عن الإضرار بالشهيد بسبب شهادته واعتبره فسوقا، حيث قال: (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) (البقرة: 282)، فإن هذا الشهيد قدّمَ شهادته العملية على موقفه الحق، وقضيته العادلة، بأعلى درجات الحضور، وفي أعلى درجات الاستعداد لتبعات ذلك الحضور، وتبعات تلك الشهادة.
لقد قدّمَ روحه التي هي آخرُ ما يُمكِن أن يطاله إضرار الغير تعبيراً عن حضوره الواعي والأكثف في ذلك الموقف الحق.
ولعلَّ الله الكريم جازى الشهيد بأضعافِ ما قدَّم، فإذا كان الشهيد قدَّم روحَه بأن تنازل عن حضوره الزائف والمؤقت في الدنيا من أجل الله وفي سبيله، فإن الله أكسبه الحضورَ الحقيقي والقويَّ والخالد والثابتَ في الآخرة، وهيَّأ له مقام الشهادة العظيم.
ارتبطت الشهادة إذن بعملية الموت قتلا، ولهذا لا تُطْلَق الشهادة على مَنْ حضر الموقفَ الحق إلا إذا قتِل فيه، فلا تُطلَقُ على المجاهد الذي حضر المعركة وقاتل فيها ولو أبلى بلاء حسنا؛ ذلك لأنه لم يلِجْ بابَ الخلود، ولم يستكمل عملية الحضور الحقيقي في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن حضوره المجازي في الدنيا، وهو البقاء في الدنيا، منَع عليه الحضورَ الحقيقي والكامل في الآخرة؛ ولأن الشهادة هي أيضا الحضور القوي والفاعل في عالم الحقيقة وهو العالَمُ الأخروي، ولا تكون إلا لمن اختاره الله شهيدا، وطاله القتل في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله.
وبهذا يتبين:
-أن مصطلح الشهادة – كما يبدو – مصطلحٌ مُبتَكَر في الإسلام، ولم يكن معروفا في الجاهلية، وهو الذي يسمى عند البلاغيين بـ(الحقيقة الدينية)، ولما صار عُرْفا عاما في صدر الإسلام صار أيضا ما يعرف بـ(الحقيقة العُرفية العامة).
-وأن هناك علاقة معنوية واضحة بين هذا المصطلح الديني، والعرفي العام، وبين أصله اللغوي (شهد)، أي الحقيقة اللغوية لكلمة الشهادة، وهي علاقة من الأهمية بمكان الانطلاق منها لبحثِ نوعِ الحضور والإدلاءِ بالشهادة، ومظاهر ذلك الحضور والإدلاء بالشهادة، في واقع الشهيد الجهادي، وفي نتائج ذلك الواقع، وتبعاته، في الدنيا والآخرة.
دقة كلمة (شهيد وشهداء)
يمكن القول بأنه ليس هناك أفضلُ ولا أدقُّ من كلمة (شُهَداء) يمكن إطلاقها على أولئك القوم الذين حَمَلوا مناياهم على أكُفِّهم، وأكفانَهم على ظُهورهم، ساعةَ ذهبوا إلى الموقفِ الحقِّ فحضروه بقوة موقفهم، وأعلى مراتب استعدادِهم، لتحمُّل النتائجِ والآثارِ المترتِّبة على ذلك الحضور القوي والفاعل.
أين كان سيكون الرئيس الشهيد الصماد، أو البطل الملصي، أو المُخْلِص القوبري، أو الفاضل عيسى العَكدة الوصابي لو لم يسلكوا طريقَ الجهاد، ثم ينالوا درجة الشهادة العظيمة؟
مَنْ يَدري.. ربما في أحسن الأحوال.. سيشيب (الصماد) وهو أستاذ اللغة العربية في تلك المدرسة في سحار.. وسيتخرّج على يده أجيالٌ من أبناء قريته، حتى إذا بلغ من الكِبَرِ عِتِيّا لا يجد سوى الأوفياء من تلامذته مَن سيذكرون أن له فضلا عليهم ذات يوم، في تدريسهم وتربيتهم، فإذا قضى الموتُ حُكْمَه فيه، فمضى جيلان أو ثلاثة، فإنه سرعان ما يطويه الزمان بسواتره الكثيفة، ويُسْدِل عليه التاريخ حُجُبَه الغليظة، وينتهي ذكرُه إلى الأبد إهمالا ونسيانا وغيابًا، إلا بما قدّم من علمٍ نافعٍ ينتفِع به، أو ببعضِ ذكرٍ في أحفادِه، وذويه، وورثته، وفي وثائقهم الأسرية، وأملاكهم الشخصية.
لكن الصماد الذي لم نعُد نشاهده اليوم جِسمًا ماديا أمامنا هل غاب تماما وانتهى ؟.. أم لا يزال حاضرا وموجودا وشاهدا؟
الصماد.. لم ينتهِ.. ولم يغب.. بل ازداد حضورا.. ووجودا.. وتألقا.. وتأثيرا.
ألم يصِرْ ذلك الذي كان أستاذا لقريته في مادة علمية واحدة لعدد من السنين أستاذا للعالَمين، وللأمة الإسلامية، ولكل حر في هذا الوطن، وللأبد؟
لقد وهب اللهَ نفسَه الفانية، والتي تتوزّع مكوناتها الأساسية على السنين والشهور والساعات، فوهبه الله الخلود والحضور والوجود الذي يتجاوز الزمان والمكان؛ لنيله فضل الشهادة، وانطلاقه في هذه الطريق العجيبة.
الصماد الذي كان قبلُ مشروع قرية واحدة، ألا يَحضر الآن بقوة في وعي الأمة، وفي ثقافتها، وفي أدبياتها، وفي تاريخ رجالاتها الزاهر والمُشْرِق؟
هذا الحضور للشهيد في وعي الأمة وثقافتها ومسيرتها ومصادر معرفتها وأخلاقها وقيمها أكثر وجودا وأكثف حضورا وأحق تأثيرا من الملايين من أقران الشهيد وخلانه وأصدقائه الذين هم أحياء في ظاهر الأمر، لكنهم غائبون في واقعه، ومستقره..
الشهادة تأتي من حيث لا تحتسب
والشهادة كالرزق تأتي من حيث لا تحتسب.
يمرُّ عشاقُها من عن يمينك وعن شمالك، وبينا تبحثُ أنت عن طريق الجنة عشرات السنين، ثم تثَّاقل عن طريق الجهاد، إذا بك تجد هؤلاء يتقدَّمون إليها من حيثُ لا تحتسب، ثم تتأمل مليا في وجوههم، فتقول لنفسك: كيف ومتى وأين وأيان؟
البعض من الشهداء كان في طريقٍ معاكسٍ لخط الشهادة، فإذا به في سرعة خاطفة يهبِط مَظليا على طريقها المعبّد بالأسرار العجيبة، وحين لا يستوعب البعض هذه الحقيقة، ولا يُدرِكُ كنهَ هذا السر، لا يملك إلا أن يقول: (أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:53].
لماذا فازوا وخسِرْنا؟
لماذا علِمُوا وكنا نحسِبُهم جُهالا؟ وجهِلْنا ونحن من ندّعي أننا العلماء والمثقفون والأكاديميون وأهل الرأي وذوو الحصافة؟
إن الحقيقة أننا صرعى أحلام بائسة صنعناها من وحي انهزامنا وظروفنا وفي رحلة فرارنا عن الحقيقة وعن الواقع، فصنعنا لنا واقعا مفترضا ليس هو الواقع الذي يجب أن يكون..
الشهيد بطل اللحظة التاريخية
إن الشهيدَ هو ذلك البطلُ التاريخيُّ الذي استطاع أن يُجيبَ على سؤالِ اللحظة التاريخية بصدقٍ وقوةٍ.. ولبّى الحاجة التاريخية لمجتمعه وأمته وزمنه والتي يجب أن يلبِّيَها كلُّ حُرٍّ وبَطَلٍ ومؤمنٍ..
عظمة الشهيد تجلّت في أنه تفاعل بصدقٍ وإخلاصٍ مع واقعِه الذي فرض عليه أن يَمضي في طريقِ الجهاد، وأن يَهدِم كلَّ تصوُّراته المُضادّة والبسيطة لثقافة الجهاد، فلم يَجِدْ الكوابحَ والمُعوِّقات التي تحُدُّ من أثرِ وفاعليةِ استجابتِه الحسنة لذلك التحدي.
أما أنت فلم تَسْتَطِعْ التَّخَفُّفَ مِنَ أعباءِ التصوُّرات الغليظة، التي كوّنتها العوامل والظروف والوضعيات المعاكِسة لضرورات اللحظة التاريخية الحاسمة.
بفعل عوادي الزمن، وتعقيدات الأوضاع الفكرية، والاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والمادية، تغبَّشت الصورة الدينية الجيدة لديك، واستَغْبَرَت وصدِئت مرآةُ المشروع الرسالي الذي كنتَ تحمِلُه، لهذا لم تكن تلك المرآة جديرةً بعكس الواقع كما هو، لتقرِّر أيَّ طريق يجب أن تسلُك، بل أعطتك واقعا مشوها، وغير حقيقي، وبناء عليه صنعت واقعا لا يوجد إلا في مخيلتك السقيمة، وأمنياتك الحَمقاء، ولهذا ظلت أطروحاتُك بعيدةً عن مقتضيات تلك اللحظة..