نفوس سامية، وأرواح زاكية، عرفت الله فارتقت في إيمانها وأخلاقها وتصرفاتها، كما ارتقت أيضاً في العمل في سبيله وابتغاء مرضاته، حتى أصبح ما دون الله لا يساوي شيئاً لديها، قوم أحبوه، فأحبهم واصطفاهم واختارهم في الدرجات العلى مع من أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين،
حتى أصبحت مواقفهم وبطولاتهم تعانق عنان السماء سمواً ورفعة، ولا زالت تلك العدسات التي توثق تلك البطولات تطلعنا من حين لآخر على مواقف تحبس لها الأنفاس، وتختنق لها العبرات، فتجلت على أيديهم من الآيات العظيمة التي تعكس عظمة المشروع الذي يحملون، والطريق الذي يسلكون، حتى أصبح حريا بغيرهم الاقتداء بهم والسير على نهجهم.
لم تكن مواقفهم قصص أو حكايات من نسج الخيال؛ إذ لا يمكن للخيال أن يسمو سمو تلك المواقف، بل كان واقعاً حمل بين طياته الكثير من الدروس والعبر والمعاني الرائعة التي تنوء بحملها الكثير من المجلدات.
فمن حادثة إلى أخرى، وملحمة وأخرى في جبهات الشرف والبطولة يزداد الرصيد من تلك الدروس التي تكشف لمن لازال على قلبه غشاوة حقيقة هذا المشروع الذي لا يضاهيه أيّ مشروع آخر؛ لأنّه امتداد للمشروع الإلهي على هذه الأرض، مهما حاول أعداؤه النيل منه أو القضاء عليه، إلا أنّه محفوظ كحفظ القرآن الكريم سنة إلهية لا يمكن إنكارها أو تكذيبها.
وقد كان أبو فاضل طومر أحد أولئك العظماء الذين آثروا على أنفسهم إلا أن يكون لهم نصيبهم من تلك البطولات والملاحم التي أذهلت الجميع، لمدى القوة والصلابة التي امتلكها على الرغم من صغر سنة، قوة جعلته يصول ويجول في ساح الوغى غير آبه بالعدو الذي يتربص به ورفاقه، ويحرص على قتلهم والتخلص منهم، فمضى يشق طريقه لنجدة رفاقه المحاصرين، حتى ارتقى ذلك البطل شهيداً عظيماً سطر موقفاً سيخلده الأجيال جيلاً بعد جيل.
لقد ظن العدو بغبائه أنّ بقتله أبا فاضل قد نال منه، لا يعلم أنّ هذا الحدث أحيا فينا ألف أبي فاضل. حتى تسابقت الأقلام لتسطر الكثير والكثير من الكلام لعلها تستطيع أن تعطي ذلك الموقف حقه، مما يدل على مدى تأثر المجتمع بالموقف الذي قام به أبو فاضل، والذي سيظل ينقش نفسه على صفحات التاريخ المشرقة، لتعكس مدى عظمة أولئك الرجال الذين هبوا لنصرة دين الله، والذود عنه، والدفاع عن أرضه الطيبة التي لا تقبل بالغزاة والخونة والعملاء أن يدنسوها.
وستظل مثل هذه الأحداث والوقائع تطالعنا من حين لآخر لأولئك الرجال العظماء مادام هذا العدوان الغاشم والاحتلال السافر لبلدنا، الرجال الذين أسسوا لأنفسهم مدرسة تتعلم منها الأجيال كيف تصنع حياة العزة والكرامة، وتشهد لهذا الشعب رفضه لحياة الذل والخنوع والاستسلام، وسيظل رفاق دربهم شاهدا على تفاصيل تلك الأحداث وتلك التضحيات والمواقف التي سطروها، والتي ستكون –بإذن الله- سبباً في نصرة هذا الشعب وتحرره، ورفضه لكل أشكال العبودية والوصاية، وتطهير كافة أراضيه من دنس المحتلين والمرتزقة والعملاء، مهما طال أمد هذا العدوان والحصار، ومهما بلغ حجم التحديات ومستوى التضحيات