كنت أظن أننا في رفضنا ومقاومتنا لقيام “إسرائيل” واقعين في أسر مفاهيم ودعاوى نضالية، تجافي العالم الحديث والحداثوي وما حاول تطبيعنا عليه من قيم السلام والحرية والديمقراطية والتسامح والقانون، وهي منظومة بدت لنا بعد تداعيات عملية ” طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر(2023) (تاريخ علينا حفظه جيداً)، أنها تنأى عن الكونية، وأن الغرب المُصدّر لها وحده يملك دليل استخدامها وضبطها على إيقاع مصالحه في المنطقة (كانت جدتي تقول: لا شيء يأتي من الغرب ويسرّ القلب).
فالحرية هي حرية قتل أطفال فلسطين، والتسامح هو في ترك الاحتلال يمارس “القصف الإنساني” لأن أولاد البلد، أصحاب “القدس العتيقة”، “حيوانات بشرية” لا تستحق نعمة الحياة.
وقد حاولت معظم نخب الغرب إقناعنا بحقّ “دولة” الاحتلال في الوجود، وقد عبّر الفرنسي، المتفلسف ميشال أونفري، في إحدى المقابلات التلفزيونية الحديثة تعليقاً على حوادث غزة عن عجبه من ضيق عيوننا، فالعالم العربي والإسلامي كبير جغرافياً وسكانياً، فلِمَ لا نترك اليهود وشأنهم في فلسطين؟ ومن يدافعون عن أطفال غزة هم “معادون للساميّة”، وقد أغضبته أصوات “حزب فرنسا الأبية” الداعية الى وقف القتل الممنهج ضد الفلسطينيين. فعن أي “دولة” نتحدّث؟ تلك “الدولة” التي تأسست على العنف والإحلال وطرد السكان؟
“دولة” مصطنعة ودعاوى كاذبة
يتساءل الباحث الفرنسي، برونو دروسكي، الأستاذ في العلوم السياسية، عن الهدف من “دولة إسرائيل”. ففي تقييم أجراه، بعد مرور أكثر من 50 سنة على “ولادتها”، رأى أنه كان لزاماً على اليهود أنفسهم طرح سؤال الشرعية التاريخية: كل هذا، من أجل ماذا؟ لأن البشرية جمعاء هي التي تعاني من هذه “الدولة”. فمنذ ادعاء البُعد “الاشتراكي”، في ثلاثينيات القرن المنصرم جرى طرد السكان من أراضيهم مع مقاومة معروفة ومشهودة من طرف الفلسطينيين.
وعانت “الدولة” التي زعمت أنها اشتراكية، من عدم المساواة مثل أي دولة رأسمالية ليبرالية على هذا الكوكب. هناك الكثير من البؤس بين الإسرائيليين، والمستوطنات الجماعية الشهيرة “الكيبوتسات”، قليلة العدد. الى ذلك، فقد تم بناء القرى اليهودية، مع بعض الاستثناءات، على أسس عرقية ودينية تتعارض مع المبادئ الأممية للاشتراكية.
أما في صفة كونها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” فكذبة كبيرة، لأن يهودية “إسرائيل” المعلنة تشكّل عقبة أمام المساواة المدنية. ويميز القانون الإسرائيلي ضد السكان الأصليين، الذين يحرمون من المساعدة العامة، والمساواة في العمل، وبكل بساطة، “الحق في العيش والعمل والمشاركة في الحياة العامة على الأرض التي شهدت ولادتهم”، لصالح المستوطنين. ويتم اختيارهم على أساس معايير دينية، أو بالأحرى عرقية.
وفي ادعائها أنها الملاذ الآمن لليهود، فثمة حقيقة ساطعة: إذا كانت هناك منطقة في العالم وجود اليهود مهدّد فيها بشكل خاص، فهي “إسرائيل”، حيث حياتهم أقل أماناً من أي دولة أخرى في العالم، سواء في أوروبا أو أميركا. وغالبية اليهود الأوروبيين لم يشتركوا في المشروع الصهيوني على أي حال. وبشكل ملموس للغاية، يحتفظ أكثر من نصف السكان اليهود في “إسرائيل” بجواز سفر أجنبي يسمح لهم بمغادرة بلد لا يعتبرونه بلدهم، لأنه غير قابل للحياة: 85% من سكانه يتركّزون في شريط ضيّق. وهذا الكيان لن يتمكّن من البقاء عسكرياً واقتصادياً إلا بدعم من الولايات المتحدة. و99% من هذه المساعدات توالى تقديمها منذ عام 1967، وهو التاريخ الذي أصبحت فيه “إسرائيل” قوة عسكرية إقليمية وقوة نووية. وبالتالي، لا علاقة لذلك بحماية “الديمقراطية المهدّدة”، كما تؤكد واشنطن. توفّر حكومة الولايات المتحدة، في المتوسط، أموالاً لكل إسرائيلي أكثر مما توفره لمواطنيها.
وبالتالي فإن “إسرائيل” لا تشكّل “دولة” بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا حتى اقتصاداً، وعلى أي حال، فلن يكون لها اقتصاد قابل للحياة طالما أنها غير مندمجة، في هذا الصدد، في بيئتها الإقليمية. إنها قاعدة عسكرية أميركية في الخارج، تموّل من قبل دافعي الضرائب الأميركيين، ولواشنطن داخلها قواعد، “قواعد داخل القاعدة”. باختصار، إنها “دولة” مصطنعة تماماً، ويشكّل وجودها في حد ذاته تهديداً للسلام العالمي، وهو أمر لا يمكن لأحد أن يقبله. ويرى الباحث، أن المذابح التي ارتكبت ضد الفلسطينيين منذ العام 1947 لم تؤدِ إلا إلى زيادة تصميمهم على استعادة حقهم. يطالب الفلسطينيون بتحقيق العدالة لهم، ولا يجوز ، بأي وجه، تجاهل قضيتهم [1].
تآكل الدولة
كتب الباحث والمؤرخ الفلسطيني، جوني منصور، عن “إسرائيل الأخرى”، ويفيدنا بأنها حاولت الاستفادة من دروس حرب تموز في العام 2006، في مواجهة حزب الله، فقدّم طاقم معهد “رئوت” أمام مؤتمر هرتسليا السابع (كانون الثاني/يناير 2007) ورقة تحمل وجهة نظر أمنية تتعلق بالقضية الفلسطينية، ترى أن بقاء الاحتلال سيؤدي إلى انهيار “إسرائيل” كونه يزيد من الأعباء السياسية والاقتصادية والعسكرية والإدارية. لذا تقترح الورقة التعجيل في الفصل بين “إسرائيل” والفلسطينيين بواسطة الانسحاب الأحادي الجانب أو تسويات واتفاقات، والتمسّك بــ “إسرائيل دولة يهودية ودعم السلطة الفلسطينية ضد حركة حماس”.
وفي زعمه أن طرح” يهودية” إسرائيل مع تبنّيها قوانين اللعبة الديمقراطية (المتآكلة والمتراجعة) ليس خاصاً بالتيارات الدينية، بل بالعلمانيين لإعادة تشكيل الدولة في ظل الأزمات والتزايد الديموغرافي الفلسطيني، وذلك من أجل تعزيز الهوية المشتركة مع يهود الشتات وربطهم بها. وتسود داخل “الدولة” رؤيتان إلى المسألة الديموغرافية، واحدة ترى فيها خطراً داهماً يهدّد الوجود والمستقبل في ظل انخفاض معدل الهجرة، وأخرى تنفي ذلك. وفي كل الأحوال، فإن “إسرائيل” تعمل ميدانياً على تعطيل ما تسميه “القنبلة الموقوتة” من خلال تطبيق سياسات عنصرية أبرزها بناء جدار الفصل ومصادرة الأراضي وتواتر الكلام عن “ترانسفير” أو تبادل سكاني.
يعود منصور لوثيقة طبريا الصادرة عام 2001 كونها تعكس رؤى النخب الفكرية في مستقبل “إسرائيل” ما بعد الصهيونية، أي في صفة كونها “يهودية وديمقراطية” في محاولة لتجاوز الشرخ العميق في المجتمع العبري، وإعادة تحصينه في مواجهة الاستحقاقات الرئيسية وخصوصاً المفاوضات مع الفلسطينيين. وفي مسألة الانسحاب يبدو واضحاً أن “إسرائيل” لن تعود إلى حدود ما قبل العام 1967، وقد أقامت خططها ومشاريعها على هذا المعطى وفرضت رؤيتها على الشارعين العربي والفلسطيني. وترسيم الحدود إذا ما تم، فإنه سيفرض تغييرات جذرية على حق العودة ووضع الفلسطينيين في “إسرائيل”.
وبسبب أزمة المجتمع العبري يتساءل منصور: هل “دولة” الرفاه في “إسرائيل” إلى زوال؟ والرد بالإيجاب، وذلك لتراجع دور “الدولة” في تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها، وظهور فجوات بين طبقات وشرائح المجتمع، وازدياد الاستقطاب بين الأغنياء والفقراء وبين الريف والمدينة. كما يلحظ تدهور وضع التعليم، أحد أسباب هجرة الأدمغة والنخب العلمية إلى الغرب وتحديداً أميركا، ودخول أطراف غير متعلّمة إلى هذا السوق الواسع [2].
“دولة” إلى زوال
يكتب الإسرائيلي آمي بوغانم (1951) المشتغل بالفلسفة، الأكاديمي ذو الأصول المغربية، واضعاً مستقبل “دولة” الاحتلال موضع المراجعة والشك واللايقين، بسبب طابعها العدواني والسياسات الداخلية الفاشلة المعتمدة، التي زادت الشرخ بين الفئات والجماعات المكوّنة للمجتمع، والحصيلة كانت أن لا “أنباء جيدة من تل أبيب”.
وقد سبق لناحوم غولدمان، الزعيم الصهيوني، أن صاغ تساؤله في كتاب “إلى أين تمضي إسرائيل”؟، متوقّعاً لها نهاية مأساوية في حال لم تعترف بالفلسطينيين وبحقهم في دولتهم، وذلك في إثر حرب تشرين في العام 1973، التي أنهت أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”.
لذا، يحاول بو غانم، المعتز بيهوديته، أن يشرح المسار الذي يقود “دولة إسرائيل”، الكيان السياسي الهش كما يقول، إلى الزوال حتماً. وما يُلاحظه ويقلقه في آن أنها تتعرّض لعملية نزع الشرعية عنها، ولا يمكن لأحد توقّع مآلها. وهذا الأمر مزدوج: خارجي وداخلي. ففي الخارج، لم تعد فرادة “إسرائيل” مقبولة في كونٍ “يتعولم”، كما لم يُقبل اليهودي سابقاً في مجتمعات دينية أو ثقافية أو قومية متجانسة.
وفي الداخل يعمل نزع الشرعية من خلف النقد للطابع العبري للمؤسسات الدولتية، وتحقير السيادة الوطنية اليهودية من طرف المجموعات المتطرفة وأولئك المتدينّين المتحمسين المطالبين بضم الضفة الغربية بسبب ذكرها في نصوص التوراة، من دون الكلام عن الأوساط العربية والدرزية المستاءة من عملية الإدماج في المجتمع المدني الإسرائيلي.
ولكي يلطّف الكاتب من وقع نقده، فإنه يوضح عدم تمنّيه زوال “إسرائيل”، كما عدم انتظاره قيام المدينة السماوية، المنشودة عند الكيبوتزيين وحركة الاستيطان التعاونية “الموشافيم” (Moshavim) والتي تعني التقشف والقناعة، والفضيلة والمدنية، والعدالة والإحسان، والتواضع والحكمة.
ويقول الكاتب إن هذا الوجه من “إسرائيل” ما زال موجوداً وتجسّده بعض الشخصيات ولكنه يتدهور من عام لآخر، تحت ضغط الشراسة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والخيلاء، وإمكان البيع والشراء لكل شيء، والفحش والبلاهة الفكرية والظلامية الدينية.
يؤكد الكاتب أن الشعب اليهودي سيتخطى مسألة احتمال اختفاء “إسرائيل” كوحدة جيوبوليتيكة وسيحافظ على بقائه كوحدة روحيّة، ولن تكون هذه المرة الأولى ولا الأخيرة التي تتخطى فيها اليهودية كنموذج لاهوتي سياسي ما يُعتبر كارثة قومية. إذ تحوي اليهودية في نظره موارد لاهوتية، وآليات دفاعية ووسائل هرمنوطيقية (تأويلية) تسمح لها باستيعاب اختفاء “إسرائيل” في مفارقة لُحمتها الشتاتية والمسيانية.
ولن يكون الزوال كارثة مزعزعة أكثر من دمار الهيكل ولا أكثر إيلاماً من قتلهم على يد النظام النازي. سيكون الأمر عبارة عن حدث صادم في التاريخ اليهودي، وسيقرأ اليهود في هذا الدمار الجديد كتاباً إلهياً أو تاريخياً يعزّز رأي المتشدّدين منهم في تحفّظهم عن هذه السيادة القومية السياسية، ويدركون أنها أساساً غير فائقة الطبيعة وغير إلهية. سيقرع اختفاء “إسرائيل” أجراس الصهيونية السياسية والدينية ولكنه لن يهدم، لا الثقة الدينية للمتشدّدين في الله، ولا الشغف بالموضوعات اليهودية الموجودة في صفوف المتعلّمين من كل صنف.
يضع بو غانم انتهاء “دولة إسرائيل” في خانة الواقع القائم، ولا يعني ذلك عنده لا نهاية اليهودية ولا نهاية الشعب اليهودي، وتفكيكها سيتحقّق على مدى عقود، وهو بدأ غداة حرب الأيام الستة عام 1967، أي احتلال الأراضي ومن ثم الانسحاب وتبعات ذلك عند الفلسطينيين وعند اليهود المتشددين [3].
لم تعد نهاية “دولة إسرائيل” ضرباً من الوهم أو التنبّؤ بالغيب، أو ربطاً برؤى صوفية حالمة، بل إنها تتحقّق في الميدان، بسواعد المقاومين للاحتلال، الساعين لتحقيق عدالة قضيتهم واسترجاع أرضهم.